سورة الرحمن - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرحمن)


        


{خَلَقَ الإنسان مِن صلصال كالفخار} تمهيدٌ للتوبيخِ على إخلالِهم بمواجبِ شكرِ النعمةِ المتعلقةِ بذواتِ كلِّ واحدٍ من الثقلينِ. والصلصالُ الطينُ اليابسُ الذي له صلصلةٌ، والفخَّارُ الخزفُ. وقد خلقَ الله تعالى آدمَ عليهِ السلامُ من ترابٍ جعلَهُ طيناً ثم حمأً مسنوناً ثم صلصالاً فلا تنافيَ بين الآيةِ الناطقةِ بأحدِها وبينَ ما نطقَ بأحدِ الآخرينِ. {وَخَلَقَ الجان} أي الجِنَّ أو أبَا الجِنِّ. {مِن مَّارِجٍ} من لهبٍ صافٍ {مّن نَّارٍ} بيانٌ لمارجٍ فإنَّه في الأصلِ للمضطربِ، منْ مَرَجَ إذا اضطربَ. {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} مما أفاضَ عليكُما في تضاعيفِ خلقِكما من سوابغِ النعمِ {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} بالرفعِ على خبريَّة مبتدأٍ محذوفٍ أي الذي فعلَ ما ذُكِرَ من الأفاعيلِ البديعةِ ربُّ مشرقي الصيفِ والشتاءِ ومغربيهما، ومن قضيتِه أن يكونَ ربَّ ما يبنهُمَا منَ الموجوداتِ قاطبةً، وقيلَ على الابتداءِ والخبرُ قولُه تعالى مرجَ الخ. وقرئ بالجرِّ على أنَّه بدلٌ من ربِّكُما. {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} ممَّا في ذلكَ من فوائدَ لا تُحصى من اعتدالِ الهواءِ واختلافِ الفصولِ وحدوثِ ما يناسبُ كلَّ فصلٍ في وقتِه إلى غيرِ ذلكَ. {مَرَجَ البحرين} أي أرسلَهُما منْ مرجتُ الدابَّةَ إذا أرسلتُها والمَعْنى أرسلَ البحرَ المِلْحَ والبحرَ العذبَ {يَلْتَقِيَانِ} أي يتجاورانِ ويتماسُّ سطوحُهما لا فصلَ بينَهما في مرأى العينِ وقيلَ: أرسلَ بحرَيْ فارسَ والرومِ يلتقيانِ في المحيطِ لأنهما خليجانِ يتشعبانِ منه {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} أي حاجزٌ من قُدرةِ الله عزَّ وجَلَّ أو منَ الأرضِ {لاَّ يَبْغِيَانِ} أي لا يبغِي أحدُهما على الآخرِ بالممازجةِ وإبطالِ الخاصِّيةِ أو لا يتجاوزانِ حدَّيهُما بإغراقِ ما بينهُما {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} وليسَ منهُما شيءٌ يقبلُ التكذيبَ {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ} الدرُّ {وَالمَرْجَانُ} الخرزُ الأحمرُ المشهورُ وقيلَ: اللؤلؤُ كبارُ الدرِّ والمرجانُ صغارُه فنسبةُ خروجِهما حينئذٍ إلى البحرينِ معَ أنَّهما إنما يخرجانِ من المِلْحِ على ما قالُوا، لما قيلَ: أنَّهما لا يخرجانِ إلا من مُلتقى المِلْحِ والعذبِ، أو لأنَّهما لما التقيا وصارا كالشيء الواحد ساغ أن يقال يخرجان منهما كما يقال يخرجان من البحرِ مع أنهما لا يخرجانِ من جميعِ البحرِ، ولكنْ من بعضِه وهو الأظهرُ. وقرئ: {يُخرَجُ} مبنياً للمفعولِ من الإخراجِ ومبنياً للفاعلِ بنصبِ اللؤلؤُ والمرجانُ وبنونِ العظمةِ.


{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * وَلَهُ الجوار} أي السفنُ جمعُ جاريةٍ، وقرئ برفعِ الراءِ وبحذفِ الياءِ كقولِ منْ قال:
للَهَاَ ثَنَايَا أَرْبعٌ حسان *** وَأَرْبعٌ فكُلُّها ثَمَانُ
{المنشآت} المرفوعاتُ الشُّرُعِ، أو المصنوعاتُ، وقرئ بكسرِ الشينِ. أيْ الرافعاتُ الشرُعَ، أو اللاتِي ينشئنَ الأمواجَ بجريهنَّ {فِى البحر كالأعلام} كالجبالِ الشاهقةِ جمعُ عَلَمِ وهو الجبلُ الطويلُ. {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} من خلقِ موادِّ السفنِ والإرشادِ إلى أخذِها وكيفيةِ تركيبِها وإجرائِها في البحرِ بأسبابٍ لا يقدرُ على خلقِها وجمعِها وترتيبِها غيره سبحانَهُ {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا} أي على الأرضِ من الحيواناتِ أو المركباتِ ومَنْ للتغليبِ أو من الثقلينِ {فَانٍ} هالكٌ لا محالةَ {ويبقى وَجْهُ رَبّكَ} أي ذاتُه عزَّ وجلَّ {ذُو الجلال والإكرام} أي ذُو الاستغناءِ المطبقِ والفضلِ التامِ وقيلَ: الذي عندَهُ الجلالُ والإكرامُ للمخلصينَ من عبادِه وهذهِ من عظائمِ صفاتِه تعالى، ولقدْ قالَ صلى الله عليه وسلم: «ألظُّوا بياذَا الجلالِ والإكرامِ» وعنْهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «أنَّه مرَّ برجلٍ وهُو يُصلِّي ويقولُ يا ذا الجلالِ والإكرامِ، فقالَ قد استُجيبَ لكَ». وقرئ: {ذِي الجلالِ والإكرام} على أنه صفةُ ربِّك، وأياً ما كانَ ففي وصفهِ تعالَى بذلكَ بعدَ ذكرِ فناءِ الخلقِ وبقائِه تعالى يفيضُ عليهم بعد فنائِهم أيضاً آثارَ لطفِه وكرمِه حسبَما ينبيءُ عنه قولُه تعالَى: {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} فإنَّ أحياءَهُم بالحياةِ الأبديةِ وإثابتَهم بالنعيمِ المقيمِ أجلُّ النعماءِ وأعظمُ الآلاءِ {يَسْأَلُهُ مَن فِى السموات والأرض} قاطبةً ما يحتاجونَ إليه في ذواتِهم ووجوداتِهم حدوثاً وبقاءً وسائرِ أحوالِهم سؤالاً مستمراً بلسانِ المقالِ أو بلسانِ الحالِ فإنَّهم كافةً من حيثُ حقائقُهم الممكنةُ بمعزلٍ من استحقاقِ الوجودِ وما يتفرعُ عليه من الكمالاتِ بالمرةِ بحيثُ لو انقطعَ ما بينَهم وبين العنايةِ الإلهية من العلاقةِ لم يشَمُّوا رائحةَ الوجودِ أصلاً فهم في كلِّ آنٍ مستمرونَ على الاستدعاءِ والسؤالِ وقد مرَّ في تفسيرِ قولِه تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} من سورةِ إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ {كُلَّ يَوْمٍ} أي كلَّ وقتٍ من الأوقاتِ. {هُوَ فِى شَأْنٍ} من الشؤونِ التي من جُمْلتها إعطاءُ ما سألُوا فإنَّه تعالى لا يزالُ ينشىءُ أشخاصاً ويُفني آخرينَ ويأتِي بأحوالٍ ويذهبُ بأحوالٍ حسبَما تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ على الحِكم البالغةِ، وفي الحديثِ: «من شأنِه أنْ يغفرَ ذنباً ويفرّجَ كرباً ويرفعَ قوماً ويضعَ آخرينَ» قيل: وفيه ردٌّ على اليهودِ حيثُ يقولونَ إنَّ الله لا يقضِي يومَ السبتِ شيئاً.


{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} مع مشاهدتِكم لما ذُكِرَ من إحسانِه.
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ} أي سنتجردُ لحسابِكم وجزائِكم وذلكَ يومَ القيامةِ عندَ انتهاءِ شؤونِ الخلقِ المشارِ إليَها بقولِه تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} فلا يَبْقى حينئذٍ إلا شأنٌ واحدٌ هو الجزاءُ فعبرَ عنْهُ بالفراغِ لهم بطريقِ التمثيلِ وقيلَ: هو مستعارٌ من قولِ المتهدِّدِ لصاحبهِ؛ سأفرُغُ لكَ أي سأتجردُ للإيقاعِ بكَ من كلِّ ما يشغلنِي عنْهُ والمرادُ التوفرُ على النِّكايةِ فيهِ والانتقامِ منْهُ. وقرئ: {سَيفرُغُ} مبنياً للفاعلِ وللمفعولِ. وقرئ: {سَنفرُغُ إليكُم} أي سنقصدُ إليكُم. {أَيُّهَا الثقلان} هما الإنسُ والجنُّ سُمِّيا بذلكَ لثقلِهما على الأرضِ أو لرزانةِ آرائِهما أو لأنَّهما مثقلانِ بالتكليفِ {فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا} التي من جُمْلتِها التنبيهُ على ما سيلقَونَهُ يومَ القيامةِ للتحذيرِ عمَّا يُؤدِّي إلى سوءِ الحسابِ {تُكَذّبَانِ} بأقوالِكما وأعمالِكما.
{يامعشر الجن والإنس} هما الثقلانِ خوطِبا باسمِ جنسِهما لزيادةِ التقريرِ ولأنَّ الجنَّ مشهورونَ بالقدرةِ على الأفاعيلِ الشاقةِ فخُوطبوا بما ينبىءُ عن ذلكَ لبيان أن قدرتَهُم لا تَفِي بما كُلِّفُوه. {إِنِ استطعتم} إنْ قدرتُم عَلى {أَن تَنفُذُواْ مِنْ أقطار السموات والأرض} أي أن تهربُوا من قضائِي وتخرجُوا من ملكوتِي ومن أقطارِ سمواتِي وأرضِي {فانفذوا} منها وخلِّصُوا أنفسَكُم من عقابِي {لاَ تَنفُذُونَ} لا تقدرونَ عل النفوذِ {إِلاَّ بسلطان} أي بقوةٍ وقهرٍ، وأنتُم من ذلكَ بمعزلٍ بعيدٍ. رُويَ أن الملائكةَ تنزلُ فتحيطُ بجميعِ الخلائقِ فإذا رآهُم الجنُّ والإنسُ هربُوا فلا يأتونَ وجهاً إلا وجدُوا الملائكةَ أحاطتْ بهِ.

1 | 2 | 3 | 4